رغم محاولات التعريب والتتريك المتواصلة فتاريخُ “جياي كورمينج” أو “عفرين” ينطق بالكردية..
“جياي كورمينج” أو ما يعرف بـ”عفرين” تعرضت على مر العصور للعديد من محاولات التغيير الديمغرافي وعمليات التتريك والتعريب والاستيطان المتعمدة، إلا أنها بقيت محافظة على طابعها الكردي الأصيل، إلى جانب محاولة البعض ترويج شرعية وحق بعض المكونات من السكان الغير أصليين للمنطقة ببقائهم فيها وادعائهم بأنهم من سكانها الأصليين منذ القدم.
منطقة جياي كورمينج أو ما يعرف إدارياً بعفرين، تعرضت على مر التاريخ للعديد من محاولات التعريب والتتريك، حيث أطلق عليها العثمانيين اسم (كرداغ)، وأطلق عليها النظام السوري لفترة من الزمن اسم (العروبة)، لكن (جياي كورمينج / عفرين بقيت منطقة كردية أصيلة، وفشلوا في تحقيق ذلك.
إذا عدنا بالتاريخ للوراء، سنجد أن أقدم وثيقة لذكر اسم العرب في منطقة (جياي كورمينج) تعود لسنة 685، تلك التي تم التوقيع عليها بين الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان والامبراطور البيزنطي قسطنطين الرابع، وبموجبها تم توطين بعض القبائل العربية الذين كانوا قد جاؤوا مع الجيش البيزنطي، ولكنهم غدروا بالجيش البيزنطي ووقفوا إلى جانب الجيش الاسلامي آنذاك، وبانتهاء الحرب وبموجب هذه الوثيقة تم توطينهم في المناطق المحيطة بـ (سيروس) أي قلعة (نبي هوري) وهي أول عملية توطين موثقة بمعاهدة بين طرفين رسميين .
وأيضاً هناك وثائق تؤكد توطين بعض القبائل ممن انضموا إلى جيش معاوية بن أبي سفيان في منطقة عفرين ومحيطها وفي عزاز ودار عزة، حيث كانوا يتبعون القائد البيزنطي (سابوريوس)، الذي انضم إلى الجيوش العربية ضد الجيش البيزنطي، وتم توطينهم أيضاً، ويذكر (سيرفانيوس) مؤلف كتاب (الإمبراطورية الشرقية البيزنطية) عن مشاركة قبيلة إيرانية تسمى (المردا) إلى جانب البيزنطيين ضد العرب، وبعد انتهاء الحرب تم توطينهم في منطقة جياي كورمينج/ عفرين ودخلوها عن طريق جبل هاوار.
وهناك الكثير من المؤرخين الذين ذكروا محاولات التوطين المتكررة في عفرين «كالتي ذكرها المؤرخ (البلاذري) الذي أشار أنه لم يُترك موضع قدم واحدة إلا وغزتها الجيوش الاسلامية وفرض عليها النموذج الاسلامي، خاصة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب على يد عياض بن غنم، وعرف ذلك ب (تمصير بلاد الكرد) أي وضع خطط لرسم وتعريب بلاد الكرد من خلال الدواوين والطراز والمقاييس والخطب والكتب وبناء المساجد وفرض النموذج العربي ونموذج شبه الجزيرة العربية تحديداً، إضافة إلى ذلك ذكرت الدكتورة طريفة أحمد عثمان في كتاب (الإسلام في القرن السابع والثامن) أن انتشار الإسلام في المناطق الكردية لم يكن انتشار عقيدة وفتحاً عسكرياً فقط وإنما كان انتشاراً ثقافياً، إضافة لما ذكره الدكتور محمد كرد علي وياقوت الحموي وابن خلدون عن محاولات التعريب.
إما إذا تحدثنا عن العصر الحديث، فأستطيع أن أقسم محاولات التغيير الديموغرافي في عفرين إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى: كانت طبيعية غير مخططة وهي هجرة بعض القبائل من الباب وجرابلس وسفيرة والطبقة مع مواشيهم إلى وادي نهر عفرين الذي يتمتع بالخصوبة واستوطنوا فيه.
المرحلة الثانية : تعود إلى مرحلة الانتداب الفرنسي وقيام الدولة التركية الحديثة، بعد اجراء استفتاء 1939 وضم لواء اسكندرون إلى تركيا، هناك بعض القبائل العربية من (حركوك والعجان والخطيب) لم يرضوا بالحكم التركي وانتقلوا إلى عفرين واستقروا فيها.
المرحلة الثالثة : بعد سيطرة حزب البعث على مقاليد الحكم في سوريا، ظهر ما يسمى بالحزام العربي، حيث عملت الدولة السورية على استقدام المكون العربي كمدرسين وإداريين ورجال أمن وتوطينهم في مستوطنات أقيمت لهم بعفرين، وظهرات عدة مستوطنات المدعومة من الحكومة السورية مثل ( تل طويل وتل حمو ومحمدية ونسرية وكارسان) ، أو من خلال خطة ما يعرف بالاصلاح الزراعي الذي عرف وقتها (بأراضي الانتفاع) وتوزيعها عليهم، وهناك المرسوم التشريعي (49) لعام 2008 الذي ينص على قوانين خاصة لملكية المناطق الحدودية عفرين وكوباني والحسكة ووضع العوائق أمام استملاك الكرد لأرواق تثبت ملكيتهم لتلك الأراضي وعقاراتهم وفتح المجال أمام العرب لأخذ تلك الأراضي.
وهناك عدة قرارات للحكومات السورية المتعاقبة لتعريب المنطقة كقرار(580) لعام 1998 التي تنص على تعريب( 329) قرية وبلدة ومزرعة، ومنع تثبيت المواليد الجدد بأسماء كردية وحصرها باللغة العربية ، وقرار عام(1965) الذي منع التكلم باللغة العربية وغيرها من القرارات.
طبعاً وبدون شك منطقة عفرين هي منطقة كردية، وسكانها من الأصلاء الكرد، وكل شيء فيها من أسماء الجبال والكهوف والوديان والأنهار والأشخاص والعادات التقاليد والتراث يصرخ بكرديتها، فهذه مسألة لا جدال فيها، ونسبة الكرد فيها أكثر من (90%)، وما تبقى وهم نسبة قليلة جداً هم من المستوطنون تعود لمحاولات استيطان ذكرتها آنفاً.
وبالنسبة للمكون التركماني أؤكد أنه لم يتواجد المكون التركماني في عفرين ابدا، إنما يوجد عائلات تركمانية في المناطق الأخرى مثل إعزاز والباب وجرابلس.
وهناك بعض العوائل الأرمنية التي قدمت إلى عفرين أثناء الحرب العالمية الأولى والمجازر التي ارتكبت بحقهم من تركيا حيث لجئوا إلى عفرين واستوطنوا فيها.
عفرين تتألف إدارياً من سبع نواحي ومدن ومركز المدينة عفرين وأكثر من ( 370) قرية وبلدة ومزرعة عدا القرى التي بقيت ضمن حدود تركيا بعد رسم الحدود السورية التركية. وهي منطقة كردية صرفة ولا جدال فيها، وكل الأقاويل بخصوص وجود نسب متفاوتة عن وجود مكونات عربية وغيرها تعود إلى أهداف وأجندات سياسية وربما تخفي خلفها مخططات وأمنيات أصحابها بتنفيذها لتثبيت هذه النسب المعلنة عنها وفقاً لصالحهم.
أن التاريخ والتنقيبات يثبت ويوثق كل ذلك، فهناك موقع أثري اسمه (شكفتا دوداري) مغارة ذا البابين، وقد عملت فيها مع البعثة اليابانية وأخرى فرنسية تؤرخ إلى أكثر من (80)ألف سنة قبل الميلاد ، وقد حاول النظام تغيير اسمها إلى (الحيدرية) ولكن تم تثبيت اسمها الكردي، وجبل هاوار وجبل (ليلون) و(تورندي) وو… كلها كردية، إضافة إلى معبد عين دارا إله الجبل ومعبد الإله (نابو) و(عشتار) حيث منعت الحكومة السورية منح الترخيص لإجراء التنقيب فيها، وجرت التنقيبات فقط في معبد (عين دارة) الذي يعود إلى أكثر من( 3200) سنة واكتشفت فيها آثار لحضارات تعود إلى الحضارة الميتانية والهورية، وقلعة (النبي هوري) اسم متداول نسبة إلى (الهوريين)، ومعابد الإله شمس والديانة الإيزيدية المنتشرة في منطقة شيراوة، وجياي ليلون، وهناك أكثر من عشرين قرية سكانها من أتباع الديانة الإيزيدية، ومعروف تاريخياً أن أسماء المناطق تعود لشعوب المنطقة، الشعب الأصيل، فالمستقدمين لا يمكن تسمية المناطق باسمهم.
وعن محاولات التغيير الديمغرافي التي تجري حالياً في عفرين يجب القول إن كل سلطة حاكمة تحاول أن تفرض النموذج الذي ينتمي لها، وتغير الحاضنة الاجتماعية إلى حاضنة موالية لها، وهذا ما جرى مع كل الامبراطوريات والخلافات والممالك التي مرت على مر التاريخ، دائماً تحاول القوى السياسية والعسكرية أن تهيأ الظروف لنفسها وتؤسس الحاضنة الاجتماعية الموالية لها، مثلاً عند دخول اسكندر المقدوني إلى سوريا سنة( 331) قبل الميلاد، قام بعض خلفائه من السلوقيين بتطبيع بعض المدن بطابع هيليني كمدينة ليتيكيا/اللاذقية حالياً ووجود مدينة باسم (اسكندرونا) في كل منطقة غزاها جيش اسكندر المقدوني.
وهذا ما يجري في العصر الحديث، حيث تقوم السلطات العسكرية بفرض لغتها وثقافتها، وهذه مسألة خطيرة وغير شرعية ومغايرة للقوانين والأعراف، فحتى الدول التي تحتل الدول من ضمن قوانين دولة الاحتلال عدم التغيير الديمغرافي وعدم تغيير النمط الإداري والسياسي والاجتماعي، وبالتالي عليها الالتزام بعدم المساس بها وتغيرها، ورغم ما يجري اليوم من محاولة تعريب منطقة جياي كرمينج/عفرين بعد الاحتلال التركي مع المعارضة السورية الموالية لها ، إلا إني على يقين بأن عفرين أصبحت تحت المجهر والرقابة الدولية إضافة إلى تمسك أهلها بالأرض وحق العودة ومن الصعوبة أن ينجحوا في مشروع تعريب أو تتريك لها واحداث التغيير الديموغرافي.
وهناك تقارير كثيرة عن استقدام عائلات المقاتلين الذين شاركوا بالسيطرة على عفرين مدعومين من قبل الجيش التركي يعملون على توطينهم ويسكنون بيوت أصحابها الكرد الذين نزحوا، وهناك تقارير تتحدث عن أن المقاتلين يأتون بعائلاتهم بالتزامن مع منع عودة الكورد المهجرين قسرا..
نتمنى من كل القوى الإقليمية والدولية إيقاف هذه الجرائم واخراج هذه الفصائل من عفرين ، ومنع اجراء أي تغيير ديمغرافي في عفرين، وتفعيل القانون الدولي والانساني، فهناك ما يثبت هذه الانتهاكات بحق السكان الأصليين. .
للأسف القانون الدولي غائب حتى الآن ، ونتمنى تطبيقه في كل مكان، ليس في عفرين فقط، فهناك الكثير من الانتهاكات وجرائم الحرب ارتكبت، وعلى الهيئات واللجان الحقوقية والانسانية الوقوف بجدية لإيقاف هذه الانتهاكات في سوريا وفي منطقة عفرين تحديداً، لكن حتى اللحظة موقفهم ضعيف، فإلى جانب قتل مئات الآلاف وتشريد الملايين من السكان في سوريا، طالت الانتهاكات الحضارات الانسانية، ففي عفرين تم استهداف معبد (عين دارة) وألحقوا أضراراً به بنسبة حوالي( 60%) ، وهو من المواقع المسجلة على لائحة اليونسكو من التراث الانساني والحضاري إضافة إلى نهب أكثر من ( 100)موقع أثري . للأسف الإرادة الدولية غائبة تماماً نتيجة الصراع بين الدول.